في زمنٍ تتسارع فيه الأخبار، وتزدحم فيه المنصّات بالآراء، أصبح كثيرٌ من الناس أسرى للتوافه؛ ينشغلون بصغائر الأمور، ويغرقون في جدالاتٍ لا تُثمر معرفة ولا تبني وعياً. تتكرر المشاهد نفسها كل يوم: نقاشات محتدمة حول تفاصيل هامشية، خصومات لفظية، وانتصارات وهمية لا يتبعها أي أثر حقيقي في الواقع. ومع الوقت، تتحول هذه الحالة إلى دوّامة نفسية تستنزف الإنسان وتدفعه شيئاً فشيئاً نحو اليأس والقلق وفقدان الراحة.
الجدال السلبي لا يبحث عن الحقيقة، بل عن الغلبة. لا يهدف إلى الفهم، بل إلى الإحراج أو إثبات الذات. وحين ينخرط الإنسان في هذا النمط من الجدل، يظن أنه حيّ ومتفاعل، بينما هو في الحقيقة يستهلك طاقته في مسارات مغلقة. تتراكم الانفعالات، ويعلو التوتر، وتضيق مساحة الهدوء الداخلي. هنا يبدأ القلق بالتسلل، ويصبح الشعور بعدم الرضا رفيقاً دائماً، لأن العقل مشغول بما لا يضيف، والقلب مثقل بما لا يداوي.
الانشغال بالتوافه يُبعد الإنسان عن القضايا الكبرى في حياته: عن تطوير ذاته، وعن بناء علاقاته، وعن سؤاله الأهم: ماذا أريد أن أكون؟ حين تُستنزف الساعات في الردود والانفعالات، لا يبقى وقت للتأمل، ولا طاقة للإبداع، ولا صفاء لاتخاذ قرارات ناضجة. ومع غياب المعنى، يتضخم الإحساس بالفراغ، ويظن الإنسان أن العالم كله ضده، بينما المشكلة الحقيقية تكمن في اتجاه بوصلته.
الخروج من هذه الدوامة لا يكون بالانسحاب من الحياة، بل بالعودة إليها بوعي. أن يختار الإنسان معاركه بعناية، وأن يميّز بين ما يستحق النقاش وما يجب تجاوزه. أن يتعلّم الصمت حين يكون الكلام عبئاً، وأن يبحث عن المعرفة لا عن الانتصار. فالحياة أوسع من شاشة، وأعمق من تعليق، وأغنى من جدال عابر.
عندما يقرر الإنسان أن يرفع نظره عن التوافه، ويستثمر وقته فيما ينمّيه ويقرّبه من ذاته الحقيقية، يبدأ الإحساس بالراحة في العودة. يخف القلق، ويتراجع اليأس، لأن الطاقة لم تعد مهدورة، بل موجّهة نحو معنى وقيمة. عندها فقط، يدرك أن الخروج من الدوامة لم يكن فقداناً لشيء، بل استعادة للحياة نفسها.
